فصل: تفسير الآيات (30- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (30- 32):

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
وقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً...} الآية، إقامة الوجه: هي تقويم المقصد والقوةِ على الجِدِّ في أعمال الدين. وخص الوجه؛ لأنه جامع حواس الإنسان؛ ولشرفه. و{فِطْرَتَ الله} نَصْبٌ على المصدر.
وقيل: بفعل مضمر تقديره اتبع أو التزم فطرة اللّه، واختُلِفَ في الفطرة ها هنا، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظةِ أَنها الخِلْقَةُ والهَيْئَةُ التي في نفسِ الطفلِ التي هي مُعَدَّةٌ مُهَيَّئَةٌ لأَنْ يَمِيزَ بها مصنوعات اللّه، ويستدلَّ بها على ربِّهِ، ويعرف شرائعه؛ ويؤمن به، فكأنه تعالى، قال: أقم وَجْهَك للدِّينِ الذي هو الحنيفُ، وهو فطرة اللّه الذي على الإعداد له. فُطِرَ البشرِ؛ لكن تعرضهم العوارضُ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ...» الحديث، ثم يقول: {فِطْرَتَ الله} الآية، إلى {القيم} فذكرُ الأبوين إنما هما مثالٌ للعَوارِض التي هي كثيرةُ. وقال البخاريُّ: فِطْرَةُ اللّهِ: هِيَ الإسْلاَمُ، انتهى.
وقوله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} يحتمل أنْ يريدَ بها هذه الفطرةَ، ويحتمل أن يريدَ بها الإنحاء على الكفرة؛ اعترض به أثناء الكلام؛ كأنه يقول: أقم وجهَك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإنَّ هؤلاءِ الكفرةَ قد خَلَقَ اللّه لهم الكُفْرَ، و{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}، أي: أنهم لا يفلحون، وقيل غيرُ هذا، وقال البخاري: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} أي: لدين اللّه، وخُلُق الأولين دينُهم. انتهى. و{القَيِّم} بناءُ مبَالَغَةٍ مِنَ القيام الذي هو بمعنى الاستقامة، و{مُنِيبِينَ} يحتمل أنْ يكونَ حالاً من قوله {فَطَرَ الناس} لاسيما عَلى رَأْي مَنْ رَأَى أَنَّ ذلكَ خصوصٌ في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالاً من قوله {أَقِم وَجْهَكَ} وجمعه: لأن الخطاب بإقامة الوجه هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته نظيرها قوله تعالى: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1]. والمشركون المشار إليهم في هذه الآية: هم اليهودُ والنصارى؛ قاله قتادة، وقيل غير هذا.

.تفسير الآيات (33- 47):

{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ...} الآية، ابتداءُ إنحاءٍ على عَبَدَةِ الأَصْنَام.
قال * ع *: ويلحق من هذه الألفاظ شيءٌ للمؤمنين؛ إذا جاءهم فَرَجٌ بعد شدةٍ؛ فعلقوا ذلك بمخلوقين، أو بِحذْف آرائهم، وغير ذلك؛ لأن فيه شكر للَّه تعالى؛ ويسمى تَشْرَيكاً مجَازاً. والسلطانُ هنا البرهانُ من رسولٍ أو كتابٍ، ونحوه.
وقوله تعالى: {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} معناه فهو يُظْهِر حجتَهم، ويغلبُ مذهبَهم، وينطق بشركهم. ثم قال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا}، وكل أحد يأخذ من هذه الخُلُقِ بقسطِ، فالمقل والمكثر، إلا من ربطتِ الشريعةُ جأشَه، ونَهَجَتِ السنة سبيلَه، وتأدَّب بآداب اللّه، فصبر عند الضراء؛ وشكر عند السراء، ولم يَبْطُرْ عند النِّعْمَةِ، ولا قنط عند الابتلاءِ، والقَنَطُ: اليأسُ الصريحُ. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره؛ لم يَيْأْسْ من رَّوْح اللّهِ وهو أنه سبحانه يَخُصُّ من يشاء من عبادهِ بِبَسْطِ الرزق، ويقدر على من يشاء منهم. فينبغي لكلِ عَبْدٍ أنْ يكونَ راجياً ما عند ربه. ثم أمر تعالى نبيَّه عليه السلام أمراً تَدْخُلُ فيه أمته على جهة الندب بإيتاء ذي القربى حقَّه من صلة المالِ، وحسنِ المعاشرة ولين القول، قال الحسن: حقه المواساةُ في اليُسْر، وقولٌ مَيْسُورٌ في العُسْرِ.
قال * ع *: ومعظمُ ما قُصِدَ أمرُ المعونةِ بالمال.
وقرأ الجمهور: {وَمَا ءَاتَيْتُمْ} بمعنى: أعطتيم، وقرأ ابن كثير بغير مد، وما فعلتم، وأجمعوا على المد في قوله {وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِّن زكواة} والربا: الزيادة.
قال ابن عباس وغيره: هذه الآية نزلتُ في هباتِ الثَّوابِ.
قال * ع *: وما جَرَى مَجْرَاها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه؛ كالسِّلمِ وغيرِه، فهو وإن كانَ لاَ إثْمَ فيه؛ فَلا أجْرَ فيه ولاَ زيادة عند اللّه تعالى، وما أعْطَى الإنسانُ تَنْمِيَةً لِمالهِ وتطهيراً؛ يريدُ بذلك وَجْهَ اللَّه تعالى؛ فذلك هُو الذي يُجَازَى به أضعَافاً مضَاعَفَةً على ما شاء اللّه له. وقرأ جمهور السبعةِ {ليربوا} بإسناد الفِعل إلى الربا، وقرأ نافعٌ وحدَه {لِتُرْبُوا} وباقي الآية بيِّن. ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهرَ من الفسَادِ بسبب المعَاصي، قال مجاهد: البَرُّ البلاد البعيدة من البحر، والبحرُ السواحلُ والمدنُ التي على ضِفَّة البحرِ، وظهورُ الفساد فيهما: هو بارتفاعِ البركاتِ، ووقوعِ الرزايا، وحدوثِ الفتنِ وتغلب العدوِّ، وهذه الثلاثةُ توجَد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفسادُ في البحر: انقطاع صَيْدِه بذَنَوب بني آدم، وقلما توجد أمة فاضلةٌ مُطِيعَةٌ مُسْتَقِيمَةُ الأعمال؛ إلا يدفعُ اللّه عنها هذه الأمور، والأمرُ بالعكس في المعاصي، وبطر النعمة؛ ليذيقهم عاقبة بعض ما عملوا ويعفوا عن كثير.
و{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: يتوبون ويراجعونَ بصائَرهم فِي طاعةِ ربهِم؛ ثم حذَّر تعالى من يومِ القيامةِ تحذيراً يَعُمُّ العالمَ وإياهُمُ المقصد بقوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} الآية {وَلاَ مَرد لَهُ}: معناه: لَيْسَ فِيه رُجُوعٌ لِعَمَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُريد لاَ يَردُّهُ رَادٌّ. وهذا ظاهر بحسبِ اللفظ و{يَصَّدَّعُونَ}: معناه: يَتَفَرَّقُونَ بعد جمعهم إلى الجنةِ وإلى النار. ثم ذكر تعالى من آياته أشياءَ وهي ما في الرِّيحِ من المنافِع وذلك أنها بشرى بالمطر ويُلَقَّحُ بها الشجر، وغير ذلك، وتجري بها السفن في البحر. ثم آنسَ سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بالبينات...} الآية، ثم وعد تعالى محمداً عليه السلام وأمّته النصرَ بقوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} وحقاً خبرَ كانَ قدَّمه اهتماماً.

.تفسير الآيات (48- 53):

{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
وقوله تعالى: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً...} الآية. الإثارةُ: تَحْريكُها من سكونِها، وتَسْييرُها، وبَسْطُه في السماءِ هو نَشْرهُ في الآفاقِ والكِسَفُ: القِطَع.
وقوله: {مِّن قَبْلِهِ}: تأكيدٌ أفادَ الإعلامَ بسرعةِ تقلبِ قُلوبِ البَشَرِ من الإبلاس إلى الاستبشارِ، والإبْلاسُ: الكَوْنُ فِي حالِ سُوءٍ مَعَ اليأسِ من زوالها.
وقوله تعالى: {كَيْفَ يُحْيِي} الضميرُ في {يُحْيِي} يُحْتَمَلُ أن يكونَ للأثرِ ويُحْتَمَلُ أنْ يعودَ عَلَى اللّه تعالى وهو أظهر. ثم أخْبَرَ تعالى عَن حالِ تقلب بني إدمَ، في أنه بعد الاستبشار بالمطر، إن بعثَ اللّه ريحاً فاصفرَّ بها النباتُ؛ ظلوا يكْفرونَ قلقاً منهم وقِلَّةٌ تسليمٍ للَّه تعالى، والضمير في {رأوه} للنباتِ واللامُ في {لئن} مؤذِنة بمجيءِ القَسَمِ وفي {لظلوا} لاَمُ القَسَم.
وقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى...} الآية: استعارةٌ للكُفَّارِ وقد تقدم بيانُ ذلك في سورة النمل.

.تفسير الآيات (54- 60):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} قال كثير من اللغويين: ضَمُّ الضادِ في البدن، وفتحها في العقل، وهذه الآية إنما يراد بها حال الجِسم، والضُّعْفُ الأول هو: كونُ الإنسان من ماءٍ مهينٍ، والقوة بعد ذلك: الشَّبِيْبَةُ وشدة الأسْر والضُّعْف الثَّانِي هوَ الهَرَمُ والشَيْخُوخَةُ، هذا قولُ قتادةَ وغيره ورَوَى أبُو داودَ فِي سننه بسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَنْتِفُوا الشَّيْبَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإسْلاَمِ إلاَّ كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وفي رواية «إلاَّ كَتَبَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» انتهى.
ثم أخْبَرَ عز وجل عن يوم القيامة فقال: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} أي: تحت التراب {غَيْرَ سَاعَةٍ} وقيل: المعنى: ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها. {كَذَلِكَ كَانُواْ} في الدنيا {يُؤْفَكُونَ} أي: يُصْرَفُونَ عن الحق.
قال * ص *: {مَا لَبِثُوا}: جوابُ القسمِ على المعنى، ولو حُكِي قولهم لَكَانَ ما لبِثْنَا؛ انتهى. ثم أخْبَر تعالى أن الكفَرَة لاَ يَنْفَعْهُمْ يومئذ اعتذارٌ ولا يُعْطَوْنَ عتبى، وهي الرِّضا وباقي الآية بيِّن، وللَّه الحمدُ.

.تفسير سورة لقمان:

وهي مكية غير آيتين، قال قتادة: أولهما: {ولو أنما في الأرض} إلى آخر الآيتين.
وقال ابن عباس: ثلاث.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 6):

{الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)}
قوله عزَّ وجل: {الم * تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ}: خصَّه للمحسنين من حيثُ لهم نفْعه، وإلا فهو هدًى في نفسه.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} رُوِيَ: أن الآيةَ نَزَلَتْ فِي شأن رجلٍ من قريش؛ اشترى جاريةً مغنيةً؛ لِتغنِّي له بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه ابن خطل.
وقيل: نَزَلَتْ في النضر بن الحارث وقيل غيرُ هذا والذي يترجح أن الآية نَزَلَتْ في لَهْوِ حَدِيثٍ. مُضَافٍ إلى كُفْر؛ فلذلك اشتدت ألفاظ الآية، و{لهو الحديث} كل ما يُلهى من غناءٍ وخِناء. ونحوه، والآيةُ باقيةُ المعْنَى في الأَمة غَابِرَ الدهرِ؛ لكنْ ليسَ ليضلوا عن سبيل اللّه، ولا ليتخذوا آياتِ اللّه هزواً، ولا عليهم هذا الوعيد؛ بل ليعطلوا عبادةً، ويقطعوا زمناً بمكروه.
قال ابن العربي في أحكامه: ورَوَى ابن وهبٍ عن مالكٍ عن محمدِ بن المنكدرِ: أنَّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؛ أدخلوهم في أرض المسك، ثم يقول اللّه تعالى للملائكة: أسمعوهم ثنائي وحمدي؛ وأخبروهم أن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. انتهى.

.تفسير الآيات (7- 11):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)}
وقوله عزَّ وجل: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الوَقْرُ في الأذن: الثِّقْلُ الذي يَعْسُر معه إدراك المَسْمُوعَاتِ، والرواسي: هي الجبالُ والمَيْد: التحرك يَمْنَةً ويَسْرَةً، وما قرب من ذلك، والزوج: النوع والصنف. و{كَرِيم}: مدحه بكرم جَوْهره، وحُسْن منظرِه، وغير ذلك. ثم وقف تعالى الكفرةَ على جهة التوبيخ فقال: {هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ}.

.تفسير الآيات (12- 13):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} اختلف في لقمان؛ هل هو نبيٌّ أو رجلٌ صالح فقط، وقال ابن عمر: سمعْت النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: «لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبِيّاً؛ وَلَكِنْ كَانَ عَبْداً كَثِيرَ التَّفْكِيرِ، حَسَنَ اليَقِينِ، أَحَبَّ اللّهَ فَأَحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ وَخَيَّرَهُ فِي أَنْ يَجْعَلَهُ خَلِيفَةً؛ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: رَبِّ إنْ خَبَّرْتَنِي، قَبِلْتُ العَافِيَةَ، وَتَرَكْتُ البَلاَءَ، وَإنْ عَزَمْتَ عَلَيَّ، فَسَمْعاً وَطَاعَةً، فَإنَّكَ سَتَعْصِمَنِي، وَكَانَ قاضياً في بني إسرائيل نُوبِيّاً أَسْوَدَ، مشققَ الرِّجْلَيْنِ، ذا مَشَافِر»، قاله سعيدُ بن المسيِّب وابن عباس وجماعة: وقال له رَجُلٌ كان قد رعى معه الغنم: مَا بَلَغَ بِكَ يا لقمان مَا أرى؟ قَالَ: صِدْقُ الحديثِ، وأداءُ الأَمانةِ، وتركِي ما لا يعنيني، وحِكَمُ لُقْمَانَ كثيرةٌ مأثُورَة.
قال ابن العربي في أحكامه: ورَوَى عُلماؤُنا عن مالكِ قال: قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ، إنَّ الناسَ قد تطاوَلَ عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرةِ سِراعاً يذهبون، وإنك قد اسْتَدْبَرْت الدنيا مذ كنت، واستقبلت الآخرة مع أَنْفَاسِك، وإن داراً ستسير إليها؛ أقرب إليك من دار تخرج منها، انتهى.
وقوله: {أَنِ اشكر} يجوز أن تكونَ {أنْ} في مَوضعِ نصب على إسقاط حرف الجر، أي: بأنِ اشْكُرْ للَّهِ ويجوز أن تكونَ مفسِّرَةً، أي: كانت حكمتُه دائرة على الشكر للَّه، وجميع العبادات داخلةٌ في الشكر للَّه عز وجل، و{حَمِيدٌ} بمعنى: محمود، أي: هو مستحق ذلك بذاته وصفاته.